من المسؤول عن جريمة "باردو "؟ د. محمد بدي أبنو*

اثنين, 2015-03-23 10:20

 

 

“كثير من الأطراف التي تُظهر حماسها لإدانة الهمجية الدموية الحالية هي في الحقيقة جزء من الأفق العام لهذه الهمجية، تأسيسا أو شرعنة أو إنتاجا. وهي صفة تجسدها بشكل خاص الأنظمة القمعية في المنطقة كما يجسدها “المثقفون” المتحالفون معها.”

 

 

 

ـ1ـ

 

مَـنْ المسؤول عن جريمة “باردو” في تونس ؟  يخلص الفيلسوف ساميَل شيفلر في دراسته “هل الارهاب قابل أخلاقيا للإستبيان Is Terrorism Morally Distinctive ? (2006)” إلى “أن كثيرا من الفلاسفة يرى الآن أن هذا المصطلح يلزم استعماله للإحالة إلى كل عنف ذي دافع سياسي موجّه إلى المدنيين أو العزّل”. إذا أخذنا هذا التعريف على محمل الجدّ فإن المسؤولين قانونيا عن الارهاب المتصاعد في العالم ما زالوا بعيدين عن المساءلة.

 

مَـنْ المستفيد من جريمة “باردو” ؟ من المؤكّد أن قيم الخير والعدالة ليست هي المستفيدة. ومن المؤكد أيضا أن أنصار النظام التونسي القديم ـ محليا ودوليا ـ يشعرون بكثير من الارتياح.  هنالك بداهة أطراف كثيرة تزعجها التجربة التونسية الحالية. يصدق ذلك محليا كما يصدق إقليميا ودوليا. أكثر من ذلك فكثير من الأطراف التي تُظهر حماسها لإدانة الهمجية الدموية الحالية هي في الحقيقة جزء من الأفق العام لهذه الهمجية، تأسيسا أو شرعنة أو إنتاجا. وهي صفة تجسدها بشكل خاص الأنظمة القمعية في المنطقة كما يجسدها “المثقفون” المتحالفون معها.

 

ـ2ـ

 

أحد العناصر الدالة لدى التنظيمات الدموية المعاصرة في العالم الإسلامي هي أنها تشترك مع الاسلاموفوبيا في نفس المسبقات. إنها بمعنى ما مرآة لها وإثبات لسريان مفعولها. والمقابل صحيح.  لا يتعلق الأمر بالاسلاموفوبيا الحالية فقط بل أيضا بالاسلاموفوبيا التاريخية الأكثر انغراسا. لعبة المرايا بين الطرفين تسمح لنا دون مبالغة أن نزعم أن تيارات العنف الهمجي الحالي هي أساسا إنتاج حداثي ليس طبعا بالمعنى الشعبوي التآمري ولكن من منظور التحولات الاجتماعية على صعيدي الواقع والتمثّل. هذه التيارات هي بشكل ما جزء لا يتجزأ من إيديولوجيا الاسلاموفوبيا ومن الدور الذي تلعبه سياسيا واقتصاديا على الصعيد الجيوستراتيجي.

 

ـ3ـ

 

كان لافتا أن الباحثة سعاد عيادة أعادت نشر دراستها “هيغل والثورة الفرنسية والإسلام” (Hegel, la Révolution française et l’Islam ) تحت العنوان التبسيطي “الإسلام والإرهاب : في صلْب تمثّل” Islam et terreur: à l’origine d’une représentation”. والواقع أنها وُفّقتْ بمستوى لا بأس به بخصوص نقطة لها دلالتها في السياق الحالي. أعني عرْضها التلخيصي للوظيفة الفلسفية التي ظلّتْ الحداثة الأوربية تميل إلى أن تَختزل فيها الإسلام. هذه الوظيفة كما تشدّد عل ذلك الباحثة تلغي التعدد التاريخي لتيارات وفهوم المسلمين للنص والواقع وتستبدلها بدلالة سالبة أحادية المادة.

 

ـ4ـ

 

تنطلق عيادة في عرضها من موازنة مشهورة قام بها هيغل في “دروس في فلسفة التاريخ” بين روبيسبيير والمسلم (كنموذج فرضي مجرد لكل مسلم). فالفيلسوف الألماني يستنفر الاسلام كأداة لتفسير الثورة الفرنسية. ولهذه المهمّة يقارن بين ما يسميه مبدأ روبيسبيير الذي يتلخص في “الحرية والإرهاب”  وبين ما يراه هدف المسلم ” الدين والإرهاب”. دلالة هذه المقارنة تكمن أولا في السياقين السابق واللاحق للمقاربة الهيغلية. فسواء بالنسبة لعصر “الأنوار” بالمعنى الفرنسي أو بالنسبة للرومانسية الألمانية اللاحقة في جانبها السياسي فإن مفردة الإسلام وُظفتْ أساسا كرديف لكل ما يعنيه الإنحراف السياسي بما في ذلك العنف اليعاقبي (روبيسبييرر ورفاقه) الذي عرفتْه الثورة الفرنسية خلال ما سمي بنظام الإرهاب. بعبارة أخرى فإن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قد جسّدا مرحلة تُـكثّـفُ وتعيد صياغة صورة الإسلام الموروثة عن العصر الأوربي الوسيط. كما تُحضّر وتعدّ ما ستؤول إليه إيديولوجيا الإسلاموفوبيا في المرحلة الحالية.

 

ـ5ـ

 

إذا نظرنا في الأدبيات التي أَسّستْ نظريا لما يسمى بـ”العنف الديني” في العالم الإسلامي خلال العقود السبعة الأخيرة فسنجد لعبة المرايا هذه منتشية في صلبها. الإسلام بدلالاته الدينية والتاريخية التعدّدية تمّ إلغاؤه بنسبة معتبرة في هذه الأدبيات. تمّـتْ إعادة تأويله اختزاليا. فهي أساسا أدبيات صادرة عن عالم المفردات الحديثة حتى حين تَستنفر نصوصا دينية وأقوال علماء قدماء. أي أنّ ظاهرة العنف الديني في تجلياتها الحالية هي ظاهرة لادينية. هي في جوهرها وتمفصلاتها المركزية ظاهرة حداثية وما بعد حداثية مستقلة إلى حد كبير عن الاسلام كوحي بل وعن الاسلام كتاريخ. يكفي هنا أن نتساءل من أين جاء مقاتلو شمال سوريا والعراق، وأن ننظر في الجنسيات الأكثر حضورا وعن الأفق السياسي والتربوي للبلدان التي “تصدّرهم”. فالمسار الشخصي للأفراد الأكثر عنفا داخل هذه المجموعات غالبا ما يُظهر هشاشة علاقتهم بالثقافة الدينية وعرضية هذه العلاقة. تماما كما أن الوعاظ والخطباء الأكثر شعبية لدى هذه المجموعات يصدرون في توظيفهم للنصوص الدينية عن ترسانات الاختزال الايديولوجي السلعي الحديث وآلياته الدعائية ومعاييره الاستهلاكية. ويتميزون بقطيعة واضحة مع أفق المعارف الإنسانوية التي تُمثل أرضية الأنساق التأويلية للمتون الكلاسيكية.

 

 

 

 

 

* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل