فقه السلم . د . السيد ولد أباه

ثلاثاء, 2015-05-05 06:42

التأمت فى هذا الأسبوع الدورة الثانية من دورات «منتدى السلم»، برعاية سمو الشيخ عبد الله بن زايد وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، بحضور ما يزيد على ثلاثمائة من علماء ومفكري الأمة، وبإشراف رئيس المنتدى العلامة «الشيخ عبد الله بن بية» الذي ليس من المبالغة القول، إنه أسسّ وأصّل «فقه السلم» في سياق مشروع تجديدي شامل للدين من بين أهدافه تسيير الفجوة بين المسلمين وغيرهم في مرحلة عصيبة من تاريخ الإسلام.   ومع أن الكثير من فقهاء الإسلام ومفكريه سعوا منذ عصر الإصلاحية النهضوية إلى إبراز اعتدال وتسامح الإسلام ورد الشبهات حول أحكام الجهاد والعلاقة بالمختلف في الدين (من بينهم رشيد رضا ومحمود شلتوت ومحمد أبو زهرة...)، إلا أن فقه السلم ظل من أضعف جوانب الخطاب الفقهي، ولم يتجاوز بعض التأويلات والاجتهادات الجزئية المحدودة، ولذا توجب التنويه بجهود الشيخ بن بيه والمنتدى الذي يشرف عليه في تأسيس وتأصيل هذا الفقه.  من الإشكالات الأساسية المطروحة في هذا السياق دلالة مفهوم الجهاد وأثرها في نظرة الإسلام للآخر ونمط العلاقة بغير المسلمين، يتعلق الأمر بإشكالية أثرت جدلاً كبيراً في الآونة الأخيرة نتيجة لتبني التيارات المتطرفة العنيفة هذا المفهوم، الذي ظل من أكثر المفاهيم التباساً في التقليد الفقهي الوسيط. ويمكن القول، إن هذا الالتباس عائد الى أمور ثلاثة هي: ارتباطه الجوهري بالمسألة السياسية وظروف العلاقات بين الدولة الإسلامية وبلدان العالم الأخرى، تباين سياقات الأحكام المتصلة به في النصوص الشرعية، ارتباطه بأزمات الانشقاق الداخلي والفتنة في المجتمع الإسلامي. وقد ازداد هذا الالتباس حدة في العصر الراهن ببروز تحولين لافتين: نموذج الحركات التحررية الوطنية التي وظفت المعجم «الجهادي» في سردية نظرية وأيديولوجية جديدة، وحركات التمرد والعنف التي خرجت على الدولة، واستخدمت مفهوم الجهاد من منظور صدامي وتكفيري داخلي. وكان الباحث الفرنسي «جان بول شارني» قد نبه في كتابه «الاسلام والحرب» (صدر1986) إلى أن مفهوم الجهاد في التقليد الإسلامي يتأرجح بين دلالة «الحرب العادلة» بالمنظور اللاهوتي المسيحي، ودلالة الحرب الاستراتيجية الموكولة للمصلحة السياسية وتقدير السلطة الحاكمة. وقد اعتبر «شارني» أن هذا التأرجح هو الذي يفسر الاختلاف الفقهي بين تصور هجومي للحرب عبّر عنه العلماء بجهاد الطلب وتصور دفاعي عبروا عنه بجهاد الدفع. ومع أن أغلب الفقهاء قالوا قديماً بجهاد الطلب، أي جهاد الابتداء وربطوه بمقصد نشر الدين، وإعلاء كلمة الله، إلا أن هذه المقاربة التي تحمل بصمات السياق التاريخي لعلاقات المسلمين بغيرهم، ظلت متميزة عن نموذجين كبيرين معروفين من مفهوم الحرب الدينية أو الحرب المقدسة، هما: حرب الإبادة التوراتية، والحرب العادلة المسيحية. النموذج الأول هو الذي ينضح به «العهد القديم» في سرده لحروب أنبياء بني إسرائيل، والنموذج الثاني هو الذي بلورته أدبيات القديس أوغسطين وتوماس الأكويني في ربطهما شرعية العنف بالغايات الأخلاقية المتمحورة حول هدفي معاقبة الخطيئة ودفع الشر. وفضلاً عن كون الجهاد الحربي، أي القتال هو معنى واحد من معاني الجهاد الكثيرة، فإنه يختلف عن الحرب التوراتية بالضوابط والقيود الشرعية للمواجهة التي تؤمن غير المقاتل وتكفل حقوق الأسرى وتحمي رجال الدين، كما تختلف عن مفهوم الحرب العادلة في نزوعها لحمل الناس بالقوة على «الهداية»، ما يتعين التنبيه إليه هنا أن المسلمين ظلوا أقلية في البلاد المفتوحة في بدايات صدر الإسلام، ولم يفرضوا دينهم على السكان الذين تحولوا في أغلبهم طواعية فيما بعد إلى الدين الجديد، مما حدا بالمستشرق النمساوي «فون جرونباوم» إلى القول، إن الإسلام «كان ينزع إلى الاستيلاء على الأرض لا على الأنفس». لم يعد للخلاف حول الجهاد اليوم معنى، وكما بين «الشيخ بن بية»، فإن جهاد الطلب لم يعد اليوم مطروحاً، وليس أمام المسلمين إلا أن يتقيدوا بالمنظور القانوني الدولي للحرب الدفاعية إطاراً شرعياً أوحد للمواجهة العنيفة، وهو مبدأ يتلاءم مع أصل التجربة الإسلامية القائمة على قيم التعاون والتعايش السلمي واحترام العهود ورفض الاعتداء والظلم. ولا شك أن فقهاء السُنة في العصور الوسيطة قد استشعروا خطر عدم تقنين أحكام الجهاد الحربي اتقاء للفتنة، فأجمعوا على اشتراط قيادة الحاكم الشرعي للقتال ومنعوا الغزو دون إمام، وهو ما يترجمه اليوم مبدأ احتكار الدولة للعنف في تدبير الشأن العمومي والعلاقات الدولية. كانت جائزة «الإمام الحسن بن علي للسلم»، التي أقرها المنتدى وشرع في منحها من هذه الدورة رسالة قوية لإبراز رسالة التسامح والانفتاح والسلم ونبذ التعصب الطائفي، وهي الرسالة التي تأسس عليها المنتدى، وقامت عليها توجهات دولة الإمارات العربية المتحدة .