أوطار وطن ، أم وطن أوطار؟

جمعة, 2014-11-21 18:06

أَوْطارُ وَطَنٍ أَمْ وَطَنُ أَوْطَارٍ؟

الدكتور : محمد عبد الرحمن " محمدن "ولد محمد الدنبجة

من المحزن أن نرى اليوم (في العام 2014) من مظاهر التشظي الاجتماعي والانشطار المجتمعي ما (قد) تعجز عن إِحْداثِه أحدثُ الأسلحة بالغةً ما بلغتْ قُدرتها التدميرية.

ومن المؤسف أننا ننظر اليوم إلى الخلف بنوع من الحنين "المقبول"، باعتبار السياق، لا لأنه كان الأمثل، بل لأن حاضرَنا يحمل بذورَ تخلُّف، وإرهاصاتِ مجهولٍ مجهولةَ العواقب؛ لدرجة أن بعضنا لا يتردد في القول إننا في حالة ارتكاس اجتماعي، مقارنةً بالماضي.

آه !وأين نحن من زمن كانت فيه الأجيال تتعارف جيلا بعد جيل،في المدارس، في المنازل (قبل الصالونات)، في الشارع، في ساحات القرية أو الحي، عبر وسائل الإعلام المحدودة في نوعها وكمها ... دون أن يعرف أحد قبيلة زميله أو جهته، بل دون أن يخطر ذلك بباله ولو بشكل عابر... وعلى الرغم من صعوبة الحياة إذ ذاك، اتصالا وتواصلا، كان في الناس مستوى من الحس الوطني، وقدر من الوعي الاجتماعي والأخلاقي ...

أما الأمور اليوم ،  فمختلفة تماما... أحاديث عن مستوى تمثيل هذه القبيلة أو تلك، هذه الجماعة أو تلك، أو المدينة وحتى القُرَيَّة أوالحي، هذه الفئة أو تلك... وعن التمييز الإيجابي لصالح هؤلاء أو أولئك....

نعم. التمييز الإيجابي، وما أدراك ما التمييز الإيجابي ! أهي كلمة حق أريد بها ....، أم كلمة حق صُرِفَتْ عن وجهتها ؟ فأغلب الداعين إليه ربما يقصدون به التمييز في التوظيف والتعيين والترشيح؛ أمور لا تطال الجوهر ولا تلامس الجميع، ما قد يُفسَّر بأنه استغلال "مكشوف" من قِبَلِ نُخَبٌ تهيئ لتقاعدها، بعيدا عن أي حلول جذرية تعالج جوهر مشكلاتنا، بكل تجرد...

أما الحل الحق، فلا يكون إلا بالنظر أبعد من مجرد "تَوْزيرِ" (كدتُ أكتب تزوير) فلان أو علان، أو ترشيحِ (كدت أكتب تشريح=من الشريحة) فلان أو علان...نظرة قصيرة المدى إلى الحاضر، تُستغَلُّ فيها المظالم، وتُتجاهل أهمُّ المعالم. وإلى جانب هؤلاء، تجد أقواما يحنُّون إلى الماضي لا ليستفيدوا من دروسه، أو يتسلحوا بتجاربه، أو يسترشدوا بعبره، بل ليكسبوا عيشهم من مجرد "مآثر" أسلافهم؛ وإنك لواجد آخرين ينظرون إليه شزرا، وكأن لهم معه "حسابا" تجب "تصفيته"، متأبِّطين روحَ الانتقام. كما تجد فئة أخرى تعيشه مزيجا من الأوهام والأحلام، أو تناوبا بينهما، كأنما يجدون الحل في استنساخه...

فعندما يتلاعبُ قادةُ الرأي بهمومٍ المواطنين، وتاريخِ البلد ووجود المجتمع، وثروةِ الوطن بغية التحصيل المادي والتربح المالي، بأي ثمن وأي أسلوب، لا يجد الكيِّس غير هذا الاستفهام المرير: "أليس منكم رجل رشيد".

ذلك أن البلدان لا تُبْنَى بعقليات المقاولة، ولو تَخفَّتْ خلف شعارات الفضيلة والعدالة والصفح والتسامح والوطنية والمصلحة العامة... وانتحالُ صفة "المقاوم" لا يمكن أن يحجب عقليةَ "المقاوٍل"،مثلما أن"المعارضة" لا يمكن أن تجانس"المغارضة"، وأن ادعاء حب الوطن كثيرا ما يَبِينُ زيفُه حين يصطدم بِرِهَانِ التضحية بالوَطَر.

من تجارب الفِتَنِ تعلَّمت الشعوب والأمم قبلنا – وينبغي أن نتعلم- أنها حين تشتعل نارُها، فغالبا ما لا يتمكن مشعلوها من إخمادها، لأنها تكون قد التهمتهم، وأكلت الأخضر واليابس؛ فلظاها مصابٌ بٍعَمَى الألوان.

ولن يستوي من يَجِدُّ في بناء "جدار"، ومن يُجهد نفسَه لإقامة جسر... لا يستويان مثلا...

ولكن لا بأس - وقد حَدَثَ ما حَدَثَ-،فكم من مِنْحَة وُلِدَتْ من رَحِم مِحْنة...فقد يكون ما أريد له أن يكون انفجارا بادرةَ الانفراج، إن هو مَكَّنَ من إخراج الحُكماء من عُزلتهم، والعلماءِ من غُربتهم، والوطنيين من خلوتهم، لسد "الفراغ" أولا، وللإشراف، ثانيا، على تشخيص مُختلِفَ الاختلالات والمظالم،دون "شخصنتها"، وتقديم الحلول التي تعالج جوهرَ المشكلِ لا أعراضَه، وبغض النظر عن المستفيدين منه آنِياً، وبغية إرساء قواعد عدل وعدالة شاملين كاملين، يُطْمأَنُّ إليهما ويثق فيهما الجميع، وقصد التأسيس لنظام تربوي حق، يُكفَلُ وُلوجُه لجميع المواطنين وبفُرَص متساويةٍ... وإلا يفعلوا، فهم شركاء في مسارات التطرف و مآلاته، وفي اتساع الخَرْق مع كل إشراقة يوم جديد.

ومهما يكن، فسيدرك هؤلاء وأولئك، عاجلا أو آجلا، أن حركة التاريخ وتقاسيم الجغرافيا هي الأقوى، هي الأقوى، هي الأقوى. والتاريخ خير شاهد على ذلك، أين جدار برلين؟ ألم تحوله إرادة الشعب الألماني، بعد 28 سنة، جسرا ومعبرا ورمزا للتواصل؟ وما حرب الصحراء، وأحداث 1989 منا هنا ببعيد.

فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ.