"بين نارين " القصة الفائزة بالجائزة الأولى فى مسابقة القصة القصيرة للمركز الثقافي المغربي بانواكشوط

أحد, 2019-05-05 16:53

 بين ناريْن ...

 

المصطفى ولد أحمد معاوية 

 

كوخٌ ضيق فى حيّ بلا معالم ، أزقّة مُلتوية لأحياء الصفيح بأطراف العاصمة ..لا أنْوار بالكوخ إلا ما تسلّل من ثقوبه كل صباح مُشعرا الصراصير و الفئران بأن الحصة الساهرة قد انتهت من ليلة شوى فيها " المختار " القراح .

 

عتَبة ذلك الكوخ ، ألِفتْ منذ فترة ، خطوات المختار، جيئةً و ذهاباً ، بحثا عن عمل يوفر له الحد الأدنى من العيش الكريم ، و اليوم يصحو صاحب الكوخ و كله عزم و إصرارٌ على ألا يعود قبل أن يحقق حلمه ،، وكيف يمكنه أن يؤوب لمسكنٍ لا كسرة فيه و لا ماء. . .

 

يتأبّط المختار محفظة ، أو دعها دبلوم " المتريز" التى حصل عليها منذ سبعة أعوام فى الاقتصاد ، ، و استقلّ الحافلة .

 

و لما كانت الحافلة مكتظة بالركاب ، تعلق بمؤخرتها و بالقرب من مساعد السائق  ( محصل الحافلة ) ، فكان أشبه بفتى معلق ب"مشجب الضياع" ، حرّك شفتيه بقول الشاعر :

 

أضاعونى و أيّ فتى مُضاع !

 

المحصل "الثرثار" أبدى قناعة كبيرة بمهنته ، و أكد ، بكل اعتزاز ،مردوديتها المادية المعتبرة ، ذلك ما شد انتباه المختار إلى حديثه الذى يستفيض فيه دون أن يقطع الحديث غير أوامره الركاب بأن يقترب بعضهم من بعض على مقاعد الحافلة ، حتى يجد ركابٌ جدُدٌ أمكنة فى الحافلة .

 

ساعة من استقلال الحافلة ، كانت "كافية " للمختار ليصل إلى مكاتب الإدارة ، التى حسبه مراجعوها موظفا بها ، و ذلك لكثرة تردده عليها ، ،

 

فكم ساعةَ انتظارٍ حرقتْه فى أروقتها ، و كم وعداً عرقوبيا ، من مواعيد المدير ظل أسيرا له .

 

 

 

اليوم و فى نهاية الدوام الرسمي ، أُتيح للمختار ، أن يقابل المدير( حُظوة يغبطه عليها أصدقاؤه )، لكن المدير ما زاد على أن جدّد الموعد بموعد مثله ! ، و تمضى الليالى سراعا ، و يعود صاحبنا في  الموعد ،دون جدوى ،  و بنفس كسيرة ، و وفاضٍ خالٍ ، و شعور بالخيبة و الإحباط .

 

يعود المختار إلى كوخه ، ليجد فى انتظاره زوجه سليطة اللسان ، فتنهال عليه ـ كعادتها ـ بالعتاب قائلة :

 

ـ ألمْ تحصل اليوم على عمل ؟ زملاءك جميعهم فى مناصب مرموقه ! لعل حظي العاثر و سوء طالعك ،  هما اللذان قعدا بك عنهم ! طبعا ، انا لا أطلب منك ، ولو إجابة واحدة ، فقد سئمتُ تنظيرك و محاضراتك الطويلة ، و القناعة و القيم ، و كيْت و كيْت ! أذكرُ أنك قلت لى فى مرة سابقة إن هاؤلاء لهم حظ عند أقرباء لهم نافذين فى الدولة ، و إن القيم التى تربّيتَ عليها و تؤمن بها ، تمنعك منأن تسلُك تلك الدروب المعتمة ...

 

كان المختار من الذين يتْقنون مهارة "حُسن الاستماع"، كان رزيناً ، هادئ الطبع ، يفكر كثيرا قبل أن يقول أو يفعل .

 

رُويدا ، رُويداً ، بدأت الزوجة تخففُ من حدة لومها لشريك حياة " بائس" ! ،، و كأنما شعرتْ بأن ما أفرغتْ فى أذنيْه من لوم وعتــاب ، يكفى لتحفيزه أكثر حتى يتخلى أكثر عن قناعاته " البائدة " فى نظرها ...

 

كان قد روى لها عن رحلته فى الحافلة  ، وعن حديث مساعد السائق ، وعن مهنته ،، ثم أخذ بنطالا و قميصا ، كان قد خبّأهما ليومه الأول فى " الوظيفة المرتقبة " ، أخذهما ، وبدأ يغسلهما ، ،، 

 

قالت فى استغراب  : لعلك حصلت على عمل ، تريد أن تفاجئنى به ؟

 

قال : غدا سأمزق كل الشهادات التى حصلت عليها ، بشِق النفس ، ثم أطعمُها النار ، ، فما أغنتْني من جوع ولا عطش !

 

سأعمل مساعدا لسائق إحدى الحافلات  ، لعلّى أوفّر لعيالى عيشاً كريماً ، سألبس بنطالى وقميصي و أضع لثامى حتى أتنكّر لبعض ما آمنت به من قِيم الشهامة و الكرم و الإيثار ....!

 

لم تتملّك مريم نفسها إلا و هي تصيح فى وجه زوجها : 

 

كَفى !

 

ما هذا الهراء ؟ 

 

لن أقبل أن تعملَ مجرد مساعد لسائق حافلة ! أيمكن أن تكون كذلك و أنت المثقف ، المحترم !

 

و أضافتْ ، وهي تحنو عليه و تحتضنه :

 

أبداً .. لن تكون كذلك ، و ما كان لي أن أدفعك لأن تحطّم أملي فيك خلال لحظة من نهار ...!

 

دعْ عنك الغسيل و خذْ كأسا " مُنعْنعة " أتقنتْها مريم بيديها " الجميلتين "...

 

أتقنتْها لك و من أجلك ...

 

حينذاك كان يسرح فى التفكير ، مسترجعا ذكريات جميلة جمعته مع رفاق فى الدراسة ، منهم من استقر بالبلد و منهم من عاش مغتربا ...

 

قال فى نفسه :

 

آه ، ، لوْ قُدر لى أن أحصل على رقم هاتف زميلي جبريل آمدو ، فقد أخبرنى بعض أقربائه بأنه أصبح موظفا أُمَمياً ، كان بيننا متفوقا ، طموحا ،خَلوقاً، ذا مشاعر طيبة نحو الجميع ، كنا ـ رفاقه ـ نتوقع له مستقبلا وظيفياً مرموقاً ، لو حصلت على رقمه الشخصي لخاطبته فى شأن ملف كنت أودعته إياه أيام مغادرته أرض الوطن ...

 

ثم أسلَم جنبه للنوم بعد رحلة جسدية ونفسية متعِبة .

 

فى حدود منتصف الليل ، هاتف المختار يرنّ ...

 

ـ لعله اتصال مساعد سائق الحافلة ، يا له من ثرثار! ، كنا قد تبادلنا أرقام الهواتف ، كان قد وعدني  بأن يبحث لى عن عمل مشابه ...

 

و قبل أن يرد المختار ، انقطع الاتصال .

 

ثم عاد الاتصال .

 

ـ آلو Mon Ami Moctar

 

ـ ألو نعم ، تفضل ... مع مَن أتحدث ؟

 

ـ أنا صديقك جبريل آمدو ! أتذكرُ أنك تركتَ لدي ملفا للعمل ؟

 

ـ أجل أذكر ذلك .

 

ـ أبشرْ فقد حصلت لك على فرصة عمل هنا بأمريكا ...

 

ـ أمريكا ، أمريكا ؟

 

ـ نعم أمريكا ، خلال يومين  ، سيكون فى متناولك ما تحتاجه للسفر ، جهّزْ نفسك للسفر ، سأكون فى استقبالك ، نبقى على اتصال .

 

 

 

فتبدلتْ الأرض غير الأرض ،،،

 

انقطع المختار عن الكوخ المهترئ ،،،

 

و الإدارة الظالمة ،،،

 

و الوطن الذى عجز عن أن يهيئ له عيشا كريماً

 

وبدلتْ زوجُه لسانا طيبا ، شاكرا ،  غير اللسان الذى اكتوى به برهة من الزمن .