أبى منبت العيدان ...د.إزيد بيه محمد محمود

أحد, 2020-09-13 22:22

اتفق مرة أن لقيت عبد الله ولد سليمان ولد الشيخ سيديا، الاقتصادي المعروف، وهو من المجيدين للغة العربية، رغم أنه خريج الجامعات الفرنسية، لقيته بوزارة الشؤون الاقتصادية والتنمية، وبعد واجب التحية ومستحبها، بادرني بالقول : "في المقابلة التي أجرتها معك التلفزة الوطنية، وكنت تتحدث فيها عن حياة الشيخ سيديا بابه، جاءت في سياق حديثك عبارة أعجبتني لدقتها وجودة سبكها، وهي قولك : إن الشيخ سيديا بابه شخصية سابقة لزمانها"، وإن تخريجي لهذه العبارة أن الرجل برحابة صدره، وبعد شأوه، وعمق غوره، وبعد نظره، وعلو همته، وغزارة معرفته، واطلاعه على مستجدات عصره – بمكتبته العروة الوثقى - وقدرته على استخلاص العبر، والتكيف مع الظرف الطارئ، لا مضارعة بينه وبين أبناء جيله، فرغم أنه توفي سنة 1924م، فهو من جيل النصف الثاني من القرن العشرين، الذي أبدعت فيه البشرية قدر ما ابدعته خلال مسيرة الإنسان على عهودها المتطاولة، والعهدة على مؤرخي المعرفة.

وقد التقينا بالمسجد الجامع –أنا وعبد الله – قبل الصلاة على المغفور له محمد ولد مولود ولد داداه، الذي يلقب نفسه (لقب الكتابة) الشنافي، فعن لي أن أعيد الجملة المأثورة، ولكن هذه المرة في سياق خواطر أكتبها عنه للقراء وفي ذهني أن التكرار حين يفيد التركيب يكون – عذيري من خليلي القارئ، فمحمد ولد مولود كذلك سابق لزمانه، مما ستجلي هذه السطور من مخاييل النبوغ فيه.

أبى منبت العيدان أن يتغير، فآباؤه الغر الكرام ينابيع رقراقة من المعرفة وفضلا عن ذلك فهو حفيد الشيخ سيديا بابه، فأمه خديجة بنت الشيخ سيديا بابه، المعروفة ب "آديه". وصلت القرية التي كانت تقطن بها والدته – عين السلامة – وأنا أقصده على متن سيارة من نوع لاند روفير، وكنت بين الركاب كسمكمة من سمك علبة السردين، فزحام الركاب وتهافتهم على السيارة ليس فيه الخبر كالعيان. لأن لاند روفير يركيت ولد الشيباني تكاد تكون وسيلة النقل اليتيمة التي تربط القرية وبوتلميت على بعد 10 كلم في الشمال الغربي، وكان من عادته أن يذهب مساء من بوتلميبت بعد الخامسة، وفي الصباح بين السابعة والثامنة جيئة. وكنت حريصا على الذهاب ذلك المساء وكان يوما من أيام شهر الصوم، وكنت صائما (لعدم المشقة لأن رمضان هذه المرة صادف شهر يناير 1991م، عز الشتاء) حرصت على الذهاب وكنت أجلس القرفصاء متأبطا وثائقي أمام الدكان الذي يوجد فيه الآن لاراباس ولد احمد ولد لاراباس، أمام المسجد في بداية سوق بوتلميت على الجانب الأيمن وأنت متجه نحو الشرق. وقد ذهبت قبل ترتيب الأولويات، هل أتابع درس اللقاء الذي يعتبر لقاحا، فلقاء أعلام الفكر لقاح للعقول. وقد نص عليه العلامة ابن خلدون، المتوفى 1406م كشرط لإتمام درس التحصيل، أم أستخلص منه سيرة جده الشيخ سيديا بابه، أم أستفتيه عن حضور الوافد الأوروبي والفتاوى المتعلقة به، وهي بين القبول والرفض، أم أسأله عن الحوادث التي تعاورت البلد وقد تعالت شكاوى المؤرخين من شح المعلومات المتعلقة بها مع مطلع القرن الفارط.
تكاثرت الظباء على خداش فما يدري خداش ما يصيد

والحق أن الرحلة مرت علي دون أن أشعر اعتبارا للحبور الذي يغمرني، فرحة الصائم وفرحة اللقاء "آخذ بالوصفين" فالزمن كما يعرف القارئ عرفه اليونانيون بأنه شعور. بدت لي أخصاص وأعرشة سألت عنها فقيل لقد دلفت إلى القرية، وسألت عن منزل محمد ولد مولود، فأشار علي أحدهم بجهته، وأمام المنزل تراءت لي صناديق خشب متناثرة كتب عليها بحروف بارزة على جذاذات من ورق محكمة الالصاق اسم وعنوان محمد ولد مولود، ومحتوى الصندوق (لائحة الكتب وأعداد المجلات...).
الصناديق متشابهة كتشابه الأوراق في الغابات ولكنها قادمة من فجاج شتى. وأغلبها مكتوب عليه بحروف لاتينية، فاجأتني طلعته البهية وقد اختفى نصف قرص الشمس في الأفق الغربي تاركة خلفها شعاعا ذهبيا أضفى على محياه وقارا أثار في نفسي ذكرى غائرة في حافظتي عن بطل قصة الأديب السوداني طيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" بطلها المعروف بمصطفي.
والحق أن درس التشبيه في البيان لم أتمثله، أقر بذلك، والإقرار سيد الأدلة، لأن حب درسه محاه حب درس التاريخ
محا حبها حب الأولى كن قبلها وحلت مكانا لم يكن حل من قبل

بدا لي كما بدا مصطفى لطيب صالح ابن الاربعين، ولكنه حين سلم علي في بشاشة وهشاشة، وثنت الترحاب زوجته الفاضلة سارة منت الشيخ سيدي محمد، والسيدة سلمى منت بيرامه - وأرجو من القارئ أن يكون على دراية ببش وهش- (وهي زكاة المروءة ورباط النعمة وشهادة بالمحتد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود) على رأي أبي حيان التوحيدي.
بدا لي على كل حال دون عمره بعقدين، بدا لي وهو خارج – خروج الناسكين – من مبنى إذا لم تخني الذاكرة من بيتين وسرادق أمامهما وقد غطي الجميع بالزنك والخشب، وتتضوع منه رائحة هي مزيج من رائحة الورق والمواد الحافظة التي نألفها في المكتبات حذر فعل الأرظة، والرائحة المنبعثة من الصناديق التي مازالت محكمة الإغلاق وعليها عناوين محتوياتها وقد ركمت في زوايا المبنى (رأيتها صبيحة الغد عندما دخلت المبنى ومازالت هذه الرائحة الزكية عالقة بي). بدا الرجل وكأنه يخرج من صومعته، فهو مغرم بالكتاب حد الهيام فهو جليسه وأنيسه ومؤنسه
أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
وحق للاستاذ محمد ولد مولود أن يهتم بالكتاب، بل أن يغرم به، وأن يعشق القراءة إلى حد الهيام، فقد جمع إلى علو همة الغربيين، وقد تخرج من جامعاتهم، صفاء ذهن الشناقطة، فهو نجل مشاهيرهم. والكتاب "هو الذي يؤدي إلى الناس كتب الدين وحساب الدواوين (...). إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بنانك، وفخم ألفاظك، وبجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك" (كما يرى الجاحظ).
وقد عدد محمد حبيب الله ولد مايأبى في كتابه زاد المسلم، فوائد الكتاب على طريقته :

لقد ضاق الزمان علي حتى *** أنست بوحدتي وبغلق بابي

وأتعبني الأنام فلا أمين *** به يثق اللبيب سوى كتاب

لذا كنت الجدير بجمع كتب *** بها نلت السرور مع احتجابي

فإن فقد النديم فلي نديم *** أمين لا يخون وذا كتابي

كتابي قد جمعت به الدراري *** وأتعبت القريحة في شبابي

منادمة الكتاب إلي اولى *** لمن رام السلامة في اغتراب

فطورا في المعارف والترقي *** إلى فهم الحقيقة والكتاب

وطورا في النوادر والأمالي *** وفي ذكرى بثينة والرباب.

وشغف الشناقطة بالكتاب منثورة درره بكتاب الوسيط، وقد بسطت فيه القول في محاضرة ألقيتها بمباني الجمعية الوطنية امام عموم العمد الموريتانيين (216 عمدة)، وأطرف ما في هذا الشغف بيتا عثرت عليه في رسالة بخط العلامة محمد محمود ولد التلاميد التركزي، موجه إلى الشيخ سيديا بابه، ويبدو أن بذمته دين له وجميل، فأراد أن يرد الجميع فتفتق ذهنه عن المكافأة، وهي عبارة عن كتاب ومعه رسالة بها البيت التالي :
ومن جل عن كل المراتب قدره *** فأفضل ما يهدى إليه كتاب
(انظر عمق غلاف كتابي الزوايا في بلاد شنقيط، المطبعة الوطنية، 2002م).
أفضى الفطور والصلاة إلى تبادل الحديث، وكان مفعما بالفكاهة، قبل أن يستأنف طابعه العلمي

قراه إذا ألم بدار قوم مفاكهة اللبيب من الرجال

بادرني بالقول من أي قبيلة أنت؟ فقلت له تجكانت، ومن أي فصيلة منها؟ قلت له أولاد ابراهيم، فأردف قائلا "من اتبرهيمه"، قلت له هذا الإسم محلي لا يفقهه إلا من كان من أهل الفضاء الذي هم فيه (كيفة، كرو، باركيول). قال لي لقد كنت واليا في الحوض الغربي سنة 1963م، إن لم تخني الذاكرة، وقد أوكلت إلي ولاية لعصابه، فزرتها مرات عديدة فعرفت الإسم من خلال تلك الزيارات، فقلت له "إذا عرف السبب بطل العجب".

وأفضى المثل إلى مهمات دون تحديدها ولا ترتيبها، والحق أقول فاجأني الرجل رغم علمي بقصة الخليفة مع مؤلفات الجاحظ، التي حين رآها فاق العيان الوصف، وحين فلاها ربا الفلي على العيان كما ربا العيان على الوصف، فاجأني لا بمعرفته لتلاع وحزون وتلال ونجاد ووهاد تاريخ بلده، ولا بعمق غوره في الأحداث الكبرى لبلاد الغرب بل عجبت لمعرفته بعلم المصريات وأعلام الحضارات الفرعونية، وتاريخ اليمن القديم، واشتغاله بالكتابة والتأليف فيه، لم أجد تفسيرا لهذا الاطلاع الذي لم يبلغ شأوه شامبليون (1790-1882م) صاحب حجر رشيد وفاك الحروف الهيروغليفية التي فتحت للبشرية الباب واسعا للاستفادة من هذا الكنز التراثي الثمين، ولا أخفي على القارئ الكريم أنه علمني من العربية ما لا أعلم وأني باقل إذا قيس بي، وأترك للقارئ تقدير أنه خريج العلوم السياسية من جامعات فرنسا مع بداية استقلال البلد، وأرجو إعمال النظر في سياق المقارنة.

والحق أن مهمتي كانت - في حسباني – تستغرق يوما وليلة وقد سهرت معه سهرة علمية مازالت نافرة في مقدمة ذكرياتي، وقد حلف أن أمضي معه ليلة ثانية، وكانت ليلة كجمع من الليالي التي نعد...

والحق أن الرجل مؤرخ بارع، وأديب لوذعي، وباحث رصين، متمكن من ناصية المنهج العلمي ومثقف مرهف الإحساس، مثقف في هيأته وأسلوبه، ضابط حافظ، عضب اللسان، يحز في المفصل، حلب الدهر أشطره، عبر عن ذلك تعبيرا طريفا ظريفا في سياق حديثه عن تعامله مع الأنظمة قال لي " ابن عمك – يقصد أحد حكام بوتلميت من قبيلة تجكانت – جاءني في عين السلامة ليخبرني أنني لم أعد تحت الإقامة الجبرية وأني حر طليق، فقلت له :"مناكب موريتانيا وأعماقها أعرفها، والخارج مللته ولن أبرح هذه القرية"، وكان فيها كما عرفته قبلة للباحثين وموئلا للضيوف، ومظنة للوثائق النادرة والنفيسة، وقد شبِه أبا حيان المتوفى 1010م الذي حرق مؤلفاته حنقا على المجتمع الذي تنكر له ولم ينزله منزلته، مع الفارق بينهما في وجه الشبه، قال لي في سياق عوائق البحث في بلادنا : "أكتب المقال العلمي تلو المقال فلا يجد طريقه للنشر، فتتجاوزه الأبحاث فأمزقه".

وقد حز في نفسي هذا الشكوى وآلمني ألما ممضا، وقلته بالحرف أمام أحد الرؤساء، بحضرة الدكتور محمد المختار ولد اباه، وأعضاء مجلس جوائز شنقيط، ونوهت بمحمد ولد مولود، وطلبت من السيد الرئيس إنشاء مطبعة للمبدعين، وهو سنامهم، ووافق لتوه، وعلمت فيما بعد أنه ألف لجنة وزارية لهذا الغرض وكادت أن ترى النور، وقد كتبت الشكوى في مقالة علمية عنوانها : "عوائق البحث في بلادنا" ونوهت بها ندوات عديدة باللسان والبنان.

عجبت للاستاذ محمد ولد مولود، كيف لم يشهر علمه حين لم ينزله مجتمعه منزلته، وقد أمر المجتمع في الشرع بأن ينزل الناس منازلهم، عجبت له لأن الانصاف يقتصي ذلك، وقد سبق بثه، بين ثنايا صحف المناقب والتراجم، عجبت له كيف لم يرفع عقيرته في وجه هذا المجتمع الظالم لنفسه قبل أن يطالبه هو الظلم، لأن مجتمعا لا يكرم مبدعيه ظالم لنفسه، ولكنه ليس أول من وقع عليه الظلم، وأخاف أن يصدق علينا القول إننا مجتمع لا يكرم مبدعيه إلا بعد رحيلهم.

شآبيب الرحمة لمحمد ولد مولود، فقد وارى الناس في البعلاتية مكتبة الجاحظ.