الشيخ سيديَ بَابَه بن الشيخ سيدي محمد الخليفة بن الشيخ سيديَ الكبير

اثنين, 2021-01-11 23:09

هو محيي السنة ومجدد القرن الرابع عشر، أبو محمد الشيخ سيديَ بَابَه بن الشيخ سيدي محمد الخليفة بن الشيخ سيديَ الكبير بن المختار بن الهيبه الإنتشائي، وأمه مريم بنت عبد الودود بن أربيه الأبييرية ثم المحمّدية.

ولد في ربيع الأول عام سبع وسبعين ومائتين وألف هجرية، وتوفي جده وله سبع سنوات، ووالده وعمره ثمان سنين. حفظ القرآن وله دون العشر، واشتغل بالعلم على علماء تلامذة أبويه، فأجازوه في مدة يسيرة في جميع ما تعلم عليهم، وكان بعضهم يقول: أرسل إلينا لنعمله فصار يعلمنا، كما أجازوه في الأوراد القادرية والاختيارات المختارية حسبما أجازهم في ذلك والداه.

فلما ناهز العشرين من عمره، تاقت نفسه إلى معرفة الحق من منبعه وترك التقليد فيه، فعكف على كتاب الله تعالى وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستجلب الكتب من الآفاق النائية بالأثمان الغالية واستنسخ منها ما لم يكن مطبوعاً، حتى اجتمع له منها ما لم يجتمع لغيره من أهل هذه البلاد، وأقبل على مطالعتها ليلا ونهاراً، مع الذكاء المفرط وسرعة الحفظ المدهشة.

وكان إذا استفاد كتابا ولو كان ذا أجزاء كثيرة، كتفسير الطبري مثلاً، وكفتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر، وكالأم للشافعي، وكمسند الإمام أحمد، وكالمبسوط للسرخسي الحنفي، لا يضعه مع الكتب التي كانت عنده حتى يتصفحه ورقة ورقة ويتعلقه كلمة كلمة. وإصلاحاته الأخطاء الغامضة منها وتوقيفاته على فوائدها المتفرقة في أفرادها في كل فن شاهدة باستقصائه نظر كلها. فقد رأيته على هامش جزء التفسير من فتح الباري، حيث عزا الحافظ ابن حجر تخريج حديث مسلم، كتب ما نصه: "ليس هذا الحديث في نسخة صحيح مسلم التي بأيدينا"، هـ.

كما كتب على هامش تفسير الجلالين، في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعٗا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي﴾، حيث عزا الجلال تفسيرها بالفاتحة إلى تخريج الشيخين، مثل ذلك يعني أن ذلك "ليس في نسخته من صحيح مسلم"، هـ.

وكما كتب: "أن مسألة القبض لا توجد أصلا في نسخة الأم للشافعي التي عنده، مع عزو الأجلاء من أئمة الشافعية مسألة القبض للأم"، هـ.

أخبرنا، رحمه الله تعالى، أنه لما كان يكتب رسالته في القبض الآتي ذكرها، أحب أن يكتب كلام الشافعي نفسه في المسألة، ورأى عزو الشافعية المسألة للأم، فراجع مظان القبض من الأم، فلما لم يجده فيها، نظرها من أولها إلى آخرها حتى تحقق أن القبض ليس في نسخته منها، فلذلك كتب. ومن طالع كتبه وجد في هوامشها بخطه من هذا النوع ما لا يحصــــى.

ولما حفظ السنة، جعلها نصب عينيه، وعمل بها حتى أصبحت أقطابا يدور عليها سائر تصرفاته، في عباداته ومعاملاته، بل في حركاته وسكناته، وشرع في تعليمها والدعاء إليها.

ولما كان أهل القطر الموريتاني: في المعتقدات على مذهب أبي الحسن الأشعري الأوسط وهو التأويل؛ وفي الفروع على رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة؛ وفي التصوف على طريق علي أبي القاسم الجنيد بن محمد، ويرون أن الحق منحصر في هذا وهذا وهذا، بَيَّنَ الشيخ، رحمه الله تعالى، أن الأوْلى في المسألة الأُولى مذهب القرون الثلاثة الفاضلة وهو الانكفاف عن التأويل وإمرارُ الظواهر كما جاءت من غير تعطيل ولا تشبيه ولا تكييف، وتفويضُ معانيها إلى الله تعالى.

وهو الذي قصد تحريره في أبياته الأربعة عشر وهي:

ما أوْهَمَ التَّشْبِيهَ في آياتِ

وفي أحاديثَ عن الثِّقاتِ

فَهْوَ صِفاتٌ وُصِفَ الرَّحمَٰنُ

بها وواجبٌ بها الإيمانُ

ثُم على ظاهرها نُبْقيهَا

ونَحْذَرُ التأويلَ والتَّشْبيهَا

قال بِذَا الثلاثةُ القُرونُ

والخيرُ باتِّبَاعهم مَقْرُونُ

وَهْوَ الذي يَنْصُرُه القرآنُ

والسُّنَنُ الصّحاحُ والحِسانُ

وكَمْ رآهُ من إمامٍ مُرتضَى

من الخلائفِ بناظرِ الرِّضَا

ومَنْ أجازَ منهمُ التأويلاَ

لم يُنكروا ذا المذهبَ الأصيلاَ

والحقُّ أنَّ مَنْ أصاب واحدْ

لاسيما إنْ كان في العقائدْ

ووافقَ النصَّ وإجماعَ السَّلفْ

فكيف لا يَتْبَعُ هذا مَنْ عَرفْ

ومن تَأوّل فقد تَكلَّفَا

وغيرَ ما لَهُ به عِلمٌ قَفَا

وفي الذي هربَ منه قد وقعْ

وبعضُهمْ عن قوله به رَجَعْ

حتى حَكَى في مَنْعِهِ الإجماعَا

وجَعَلَ اجتنابَه اتِّباعَا

وقد نَمَاهُ بعضُ أهل العلمِ

من الأكابر لحزب جَهْمِ

فاشدُدْ يديْك أيُّها المُحِقُّ

على الذي سَمِعْتَ فَهْوَ الحَقُّ

هذا المذهب هو الذي رجع إليه الأشعري في آخر عمره، وهو الذي في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة"، وإليه رجع الباقلاني، وإمام الحرمين كما في رسالته النظامية، والفخر الرازي، والغزالي، والشهرستاني، وغيرهم من أئمة الأشاعرة في أواخر أقوالهم.

وكان يحذر، تبعا لأئمة السلف كالأئمة الأربعة وغيرهم، من علم الكلام، وهو ما تنصب فيه الأدلة العقلية وتنقل فيه أقوال الفلاسفة، فيستحسن قول الإمام الشافعي: "حكمي في أهل الكلام حكم عمر رضي الله عنه في صبيغ بن عـــسال التميمي ثم اليربوعي أنْ يضربوه بالجريد، ويحملوه على الإبل ويطاف به في العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام". هـ. كما يستحسن أيضاً قوله: "لأَن يلقى اللهَ العبدُ بكل ذنب ما خلا الشركَ خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام"، هـ.

ثم لما كان الدليل فيما يتوقف الشرع عليه عند أهل هذه البلاد، تبعا لثاني أقوال الأشعــــري، إنما هو العقلي مخافة الدور، بيَّن الشيخ، رحمه الله تعالى، أيضاً تبعاً للسلف وللأخير من أقوال الأشعري والغزالي والبيهقي وابن أبي جمرة والقشيري وابن عباد والقرطبي وابن رشد وابن حجر وابن عطاء الله وابن زكري وجسوس والأمير ، "أن الدليل إنما هو النقلي وأن اكتفاء من أسلم به في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين مشهور، بل لم يُنقل عنهم سواه، وأن الجهة منفكة فلا دَوَر، إذ المعجزة إنما تتوقف على وجود هذه الصفات لله تعالى خارجا، لكونها لا توجد إلا بها ولا تتوقف على معرفتها. ألا ترى أنها تقوم حجة على منكر وجاهل محض، والمتوقف على السمع والمعجزة معرفتها والحكم بها، أي وجودها الذهني لا الخارجي، ولو صح هذا الدور للزم بالأوْلى في الدليل العقلي، فإنه بنفسه والنظر فيه يتوقف على الصفات بلا واسطة شيء، إذ لم يخرج عن كونه فعلا من الأفعال، هو هذا الذي قصد تحقيقه بلا واسطة في أبياته الأربعة:

معرفة الإعجاز للقرآن

تكفيك من معرفة الإيمانِ

وعِلْمَ ذلك البليغُ يَعْلَمُ

ضرُورةً عَرَبُه والعَجَمُ

وغيرُه يَعرفُ بالدليلِ

إعجازَهُ بعَجْزِ كُلّ جيلِ

هذا الذي قد رجع الكلامُ

إليه فاحفظَنْهُ والسلامُ

وفي نقوله التي كالشرح لها. ثم بيَّن في المسألة الثانية: "أن تقليد غير المعصوم في كل ما قال من غير التفات إلى الدليل ولا إلى أقوال غيره من العلماء خطأ وخطر". هـ

ثم أرشد المقلدين بكتابه "إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين"، فقد قال في ترجمته ما نصه: "أما بعد فهذه نقول قُصد بها بيان أن الأوْلى للمقلد لأحد الأئمة الأربعة إذا وجد خلاف إمامه عن الأئمة الثلاثة في مسألة، وتبَّين له رجحانه على مذهب إمامه في تلك المسألة بموافقته للقرآن أو السنة الصحيحة المخرَجَة في الصحيحين أو في أحدهما أو نَصّ الترمذي مثلا على صحتها، ولم يجد مثل ذلك لإمامه، أو وجد ثلاثة من الأئمة الأربعة متوافقين على خلاف إمامه في مسألة، ولم يجد فيها دليلا من القرآن والسنة الصحيحة موافقا لإمامه ولاسيما إن اجتمعت هذه المرجحات ومعها رواية عن إمامه، أن يعمل بما تبين له رجحانه إن كان متحرياً للحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، انتهـى كلامه بلفظه.

فهو كتاب لم يُسبق إلى مثله، وقد قرظه بقوله:

هذي نُقولٌ صحيحاتٌ صريحاتُ

في قَفْوِها لإله الناس مرضاةُ

تهديك نحو كتاب الله أو سنن

قد أثبتتها عن المختار أثْبَاتُ

وأعملتها رعاة العلم كلهم

أو جلهم إن تكن ثَمَّ اختلافات

قد جُمعت من بطون الكتب فالتأمت

وكُنَّ يُلفيْن فيها وهي أشتات

يرضى بها من أولي الألباب من صقلت

من قلبه لقبول الحق مرآة

لا يمتري عاقل فيها إذا سُمعت

إن كان منه لقول الحق إنصات

لكنها حين عاد الدين مغتربا

وهي عروته الوثقى غريبات

فهذه السنة الغراء دارسة

وأهلها في تخوم الأرض أموات

وعد ذلك موقوت بلا كذب

قد حان من عصره الموعود ميقات

وفي اتباع كتاب الله أو سننٍ

صحت عن المصطفى للدين منجاة

والرأي في وقته من أهله حَسَنٌ

ولا تراه على المنصوص يفتات

إن البدايات من يحكم تحققها

تحققت عنده منها النهايات

وكان احترامه للأئمة ولمذاهبهم على حد سواء، من غير تعصب لإمام معين أو زهد فيه، يثني على الأئمة ويشكر لهم سعيهم ويترحم عليهم، وينظر في أقوالهم نظر منصف، فإن اتفقوا على مسألة بان له دليلهم فيها، أو لم يَبن له دليل على خلافهم، فذلك هو الضالة المنشودة عنده؛ وإن اختلفوا نظر إلى من معه الدليل فأخذ بقوله سواء كان واحدا أو اثنين، وإن لم يتبين له الدليل، ورجعت المسألة إلى الرأي البحت والاجتهاد المحض، نظر فإن اتفق ثلاثة من الأئمة الأربعة على قول فيها وخالف الرابع، أخذ بقول الثلاثة وجعلهم بمنزلة الدليل، كما أشار إليه في كلامه السابق، وإن صار اثنان منهم إلى قول، واثنان إلى قول، ولم يترجح عنده أحد القولين بمرجح ما، ذهب إلى قول مالك ومن معه، فلم يكن يُـــقــــدّم على قول مالك إلا الدليل أو خلاف الثلاثة له.

وكان يذهب إلى قول من قال من العلماء بتيسر الاجتهاد، ويقول فلان وفلان وفلان - من أهل عصره - مجتهدون، لمعرفتهم ما يتوقف عليه الاجتهاد، لكن التوفيق شيء آخر، ويميل إلى قول الحنابلة ومن وافقهم من الشافعية أنه لا ينقطع ويصوِّب قول الجمهور أنه يتجزأ.

ولما كثر الخلاف في حرف الضاد نظم فيه هذا الرجز، وهو:

لِيُمْعِنِ الْقَارِئُ بِالضَّادِ النَّظَرْ

عِنْدَ احْتِجَاجِهِ بِنَصِّ الْمُخْتَصَرْ

هَلْ ثَمَّ تَمْيِيزٌ عَسِيرٌ جِدَّا

أَوْ ثَمَّ حَرْفٌ يُتْعِبُ الْعِبِدَّى

وَهَلْ تُطِيقُ لَفْظَهُ الصِّبْيَانُ

وَالْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ وَالسُّودَانُ

فَالضَّادُ أَصْعَبُ حُرُوفِهِمْ بِلَا

تَنَازُعٍ بَيْنَ جَمِيعِ الْفُضَلَا

وَالْمَيْزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظَّاءِ

صَعْبٌ لَدَى جَمَاعَةِ الْقُرَّاءِ

وَاخْتَصَّتِ الْعَرَبُ بِالتَّكَلُّمِ

بِهَا عَنَ اَصْحَابِ اللِّسَانِ الْعَجَمِي

بَلْ ذَلِكَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الضَّادِ

وَالظَّاءِ فِي الْمخْرَجِ عِنْدَ النَّادِي

يُبِينُ ذَاكَ لِلَّبِيبِ النَّاظِرِ

عِبَارَتَا الْمِصْبَاحِ وَالنَّوَادِرِ

وَلْيَهْدِه إِلَى سَوَاءِ الْمَنْهَجِ

"وَالضَّادَ بِاسْتِطَالَةٍ وَمَخْرَجِ"

وَنَصَّ ذَاكَ النَّشْرُ وَالتَّمْهِيدُ

لَهُ وَالِاتْقَانُ بِهِ شَهِيدُ

وَأَنَّ ضَادَ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ

مُشْبِهَةٌ فِي السَّمْعِ صَوْتَ الظَّاءِ

وَنَصَّ ذَاكَ فِي النِّهَايَةِ انْظُرِ

وَالْفَجْرَ فَانْظُرْهُ لَهُ وَالْجَعْبَرِي

وَلَيْسَ فِي تَحْقِيقِهِ مِنْ بَاسِ

فِي مَبْحَثِ اللَّفْظِيِّ فِي الْجِنَاسِ

وَذَاكَ فِي أَلْفِيَةِ الْبَيَانِ

وَشَرْحِهَا قَدْ جَاءَ وَالْإِتْقَانِ

وَقَدْ قَفَا الْجَلَالَ مَنْ تَأَخَّرَا

فِيهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَيْئًا نُكُرَا

وَكَمْ شَوَاهِدَ لِهَذَا الْمَطْلَبِ

لِعُلَمَاءِ أَهْلِ كُلِّ مَذْهَبِ

فَالْفَخْرُ فِي تَفْسِيرِهِ قَدْ نَبَّهَا

وَشَرْحُ الِاقْنَاعِ وَشَرْحُ الْمُنْتَهَى

وَمِنْ قَضَاءِ الْحَاجِ لِلْمُحْتَاجِ

نَظَرُهُ لِشَرْحَيِ الْمِنْهَاجِ

وَالْحَصْرُ لِلظَّاءَاتِ فِي الْمُقَدِّمَهْ

وَغَيْرِهَا بِالْعَدِّ، يَا صَاحِ، لِمَهْ؟

وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِمُۥ مُشَالَهْ

وَقَوْلِهُمْ قَاصِرَةٌ فَيَا لَهْ!

وَانْظُرْ إِلَى ذِكْرِهِمُۥ مَنْ غَلِطَا

بِمَزْجِ ضَادِهِ بِدَالٍ أَوْ بِطَا

وَفِي السَّمَاعِ مِنْ جَمِيعِ الْعَرَبِ

فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ تَمَامُ الْأَرَبِ. اه

ثم شرح نظمه هذا شرحاً حافلاً جمع فيه كلام أئمة القراء وأئمة أهل اللغة في صفات الضاد ومخرجه، وأوضح أن ما ينطلق به دهماء أهل هذه البلاد مناف لصفاته ومخرجه، ثم قال في ذلك:

الضاد حرفٌ عسيرٌ يشبه الظاءَ

لا الدَّالَ يُشْبُه في لفظ ولا الطاءَ

لحنٌ فَشَا منذ أزمانٍ قد اتّبعَتْ

أبناؤُهم فيه أجْداداً وآباءَ

من غيرِ مُستَنَدٍ أصلا وغايتُهم

إلْفُ العوائد فيه خَبْطَ عشواءَ

والحق أبلجُ لا يخفى على فَطِنٍ

إن استضاء بما في الكُتْب قد جاءَ

هذا هو الحقُّ نصًّا لا مَردَّ لهُ

من شاء بالحق فليومن ومن شاءَ. ه

وألّف في حكم قتال البغاة جزءاً، جلب فيه أدلة الجمهور الموجبين قتالهم، وأدلةَ من يرى الكف من السلف وإن قتل. وبيَّن أن القول الأول هو الراجح من حيث الدليل، لقوله تعالى : ﴿فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمْرِ ٱللَّهِ﴾، وهو المشهور لأكثرية من قال به من السلف. فقد أجمع المسلمون على أن عليا كرم الله وجهه كان هو المصيب في حروبه وأن الطائفة المحاربة له بغاة لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما: "تقتل عماراً الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدوعونه إلى النار" هـ، وأجمعوا على أنه قتل مع علي بصفين. قال الحافظ ابن حجر في ترجمة علي كرم الله وجهه من كتابه الإصابة ما نصه: "وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع علي واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم ولله الحمد"، انتهى كلامه بلفظه. ولثبوت ندم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على عدم قتالهم، ففي كتاب الفتن من فتح الباري أنه قال : "ما وجدت في نفسي في شيء من أمر هذه الأمة ما وجدت في نفسي أني لم أقاتل الفئة الباغية كما أمر الله". هـ

يقول رحمه الله تعالى في آخر رسالته في أخبار إيداوعيش ومشظوف، حيث ذكر طرفا من حروب زوايا أهل هذه البلاد بينهم، ما نصه: "والزوايا لو صاحبهم التوفيق لما كان بينهم من الحروب ما كان، إذ لا مملكة يتجاذبونها ولا منفعة يجادلونها، وعندهم آية ﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا﴾ يتلونها ، لكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله"، انتهى كلامه بلفظه.

وسئل عن شهادة أهل معية الذات لأجل حكم من قاض أدى إلى ذلك، فأجاب بما لفظه : "قول الله تعالى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ وقوله﴿إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾، أجمع السلف من أهل السنة والخلف على أن المراد بعلمه؛ والجهمية وبعض المعتزلة هم القائلون بذاته. مما يُنظر لذلك تفسير ابن عطية وتفسير الفخر وتفسير أبي حيان وتفسير الثعالبي وكتاب الذهبي وبعض كتب السنوسي وكتاب الملل والنحل للشهرستاني وكتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وفتح الباري وغير ذلك". انتهى كلامه بلفظه. ثم ألف في هذه المسألة رسالة مستقلة نشر فيها ما طوى في هذا الجواب.

وله: نظم في أسماء الله تعالى الحسنى، ونظم في أسماء أهل الصفة، ورسالة مستقلة في الطهارة، ورسالة في سنية القبض، وله رسالة مستقلة في حكم الرضاع، أجاب بها سؤالا سأله العلامة محمد سالم بن المختار ابن ألما الديماني، وأخرى في أخبار إيدوعيش ومشظوف.

ثم بين في المسألة الثالثة أن الطرق إلى الله تعالى مسدودة، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أئمة الصوفية صرحوا بالبراءة من كل من ينتسب إليهم، إذا خرج عن اتباع الشرع. وكان يقول إن التصوف شيء واحد، وهو الإخلاص في العمل وفي ذلك يقول:

حقيقةُ الصوفي عند القومِ

العالِمُ العاملُ في إخلاصِ

أَهْلِ الصفاءِ مِنْ دواعي اللومِ

لا غيرُ يا مبتغيَ الخلاصِ

ويقول: ليست الكرامات الخوارق، بل إنما هي الاستقامة على السنـة. ويقول: الشريعة قد كمُلت بنص القرآن العزيز، فالواجب الانتهاء إليها، والدوران معها والعمل بمقتضاها.

وقام رحمه الله تعالى في وجوه البدع التي عمت الأقطار فأعْمتها، وصاحت فيها بملء فيها فأصـمّــتها، زاجـرا عنها ومحذرا منها في خطبه الفائقة وأراجيزه الرائقة حتى هدى الله به من شاء من خلقه.

ثم إنه تتبع كتب الحديث جوامع ومسانيد ومعاجم يجمع منها ما صح من الأذكار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله وردا يتعبد به ويلقنه من عقل من عياله، ومن طلب منه الورد من المسلمين.

وكانت طهارته وصلاته طويلة إلى الغاية، بحيث كان إذا كبر للإحرام يَقدر من يريد الصلاة خلفه أن يتبرز ثم يتطهر ثم يدرك ركعته الأولى. بل سائر عباداته وعاداته مقصورة على ما ثبت عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلذلك صارت رؤيته وهديه وسمته وإرشاداته أعظم مرب ومرشد لكل من منّ الله عليه بصحبته.

وكانت شمائله الطيبة وسجاياه السنية وأخلاقه المرضية وصنائعه، البعيدة من التكلف البريئة من التصنع، وإنفاقاته المتفوقه وصلاته المتهاطلة عنوانا على خلوص نيته لوجه ربه الكريم، فلذلك وضع له ربه المحبة والمهابة في قلوب العباد والذكر الحسن في جميع البلاد.

وكان يحث على طلب العلم ويشير إلى مؤلفات السلف الواضحة المشحونة بالأدلة ويقول إن المختصرات الخالية من الدليل سبب في نضوب العلم.

ويأمر بالتكسب، ويمدح ذويه ويذم الكسل والفراغ، ويحذر منهما، وفي ذلك يقول:

جزى الله أربابَ المكاسب إنهم

على الحق والتحقيقِ منْ غيرِ مَا شَكِّ

هم طلبوا الدنيا من أبوابها

التي ترام بها لا بالتحيل والنُّسْكِ. ه

وكان يحض على مكارم الأخلاق ويرغِّب في الاستكثار من الأصدقاء ويقول: "لا يعرف ثمانتهم إلا من ابتلي بالأعداء".

وكان كثير التوسل إلى الله تعالى في النوائب بالنظم، وقلَّما توسل إليه في حاجة إلا قضاها له على الفور.

ولما رأى ما وقع من الحروب بين أهل موريتانيا عرباً وزوايا، وشاهد ضررها وتطاير شررها، ورأى قول الإمامين مالك بن أنس والليث بن سعد: "سلطان جائر سبعين سنة خير من أمة سائبة ساعة من نهار"، وعلم أن الشريعة دائرة مع المصالح حيثما درات، وعلم من كلام المفسرين أن التولية والمودة للمخالف في الدين المَنهي عنهما شرعاً إنما هما في الدين؛ ورأى أن الشروط المعتبرة في الوالي شرعاً إنما هي في حال الاضطرار وأن المتغلب أياً كان تجب طاعته شرعاً؛ ودرس أحوال أمم الإفرنج مع أهل إفريقية الغربية الذين موريتانيا همزة وصل بينهم؛ وطالع المؤلفات المتعرضة لذلك، كالجزء الأخير من الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للعلامة أحمد بن خالد بن ناصر السلاوي، وبحث عن أحوال العالَم إذ ذاك مع متجوليه، إلى غير ذلك مما أفرد له ولأدلته رسالة مستقلة، عقد صلحا بين دولة فرنسا التي تملك إذ ذاك جميع إفريقية الغربية، إلا موريتانيا، وتملك أيضا قطري تونس والجزائر، وعلم أنها تبذل جميع قواها في حمايتها المغرب الأقصى، كما وقع ذلك بَعْدُ عن قرب بينها وبيْن من أصغى إلى إرشاداته من أهل موريتانيا، وراجع من لم ير ذلك منهم ابتداءً صوابا بصائــرَه، فرجع إلى الصواب أخيرا.

فهدأت الأحوال بحسم مواد القتال وحفظ الأموال وبكثرة وسائل النقل للكتب العلمية والبضائع الغالية من الأقطار النائية، وبتيسر الحج إلى بيت الله الحرام بعد أن كان في قطرنا هذا كالمتعذر لعظم المشقة وبعد الشقة؛ فليس يعلم إلا اللهُ تعالى وجاهتَه عند تلك الدولة في مصالح المسلمين العامة والخاصة، بل صرح لهم عند عقد الصلح حين سألوه عن عياله ليحترموه بأنه كل من يدين بدين الإسلام. ولم يقبل لهم راتبا، ولم يعلق لهم وساما، ولم يقبل لأحد من عياله الخاص أن يتعلم لغتهم، مع شدة حرصهم على قبوله تلك الأمور. بل لما حصل مراده، وهو أمن البلاد والعباد، تفرغ لعبادة ربه، ونشر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم آناء الليل وأطراف النهار، يطعم الجائع ويسقى الظمآن ويفك العاني ويكسو العريان ويخلص الأسير ويهدي الحيران، قائما للمظلوم مقام عمر بن عبدالعزيز بن مروان، ولأهل القرآن مقام أُبي وعثمان، ولأهل الحديث مقام أحمد والشيخين وسفيان، ولأهل الفقه مقام مالك والشافعي والنعمان، ولأهل اللغة مقام القاموس واللسان، ولأهل النحو مقام ابن مالك وأبي حيان، ولأهل العروض والبيان مقام الخليل وصاحب عقود الجمان.

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالَم في واحد

حتى دعاه ربه فلباه ظُهْرَ الخميس، ثالثَ جمادى الآخرة، عامَ اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف، عن أربع وستين سنة وأشهر، رحمه الله تعالى. قال ابن عمه سيدي محمد بن الداه بن داداه مؤرخاً وفاته وعمره.

قَضَى بجيمٍ من جمادَى الثانيهْ

إمامُ كُلِّ حَضَرٍ وباديَهْ

الشيخُ سِيدِيَ بوقتِ الظُّهْرِ

يومَ الخميس يا لَهُ مِنْ أمْرِ

في سَنةٍ تاريخُها بشمسِ

والعمرُ "دِينٌ" كضياء الشمسِ

بشمـس أي 1342 هـ و دينٌ أي 64 سنة.

ولو كنا كتبنا ما نعرف من فضائله الحسان، التي هي في جِيد الزمان، أبهى من قلائد العقيان، وشهادات أماثل قطره وأسماء من تخرجوا على يديه في كل فن، وما شاهدناه من كراماته وبركاته، وما نيل من الجلب والدفع بسبب دعواته، وما نحفظ من شعره، وما قيل فيه من المدائح، ثم ما قيل فيه من المراثي، لكان مجلدات، لكن الطالب منا جمْع هذا راض باليسير، وإن كان في حق المترجَم رحمه الله تعالى عينُ التقصير، لكن ما لا يدرك كله لا يترك بضعه. وبالله تعالى التوفيق، وهو وحده الهادي إلى أقوم طريق.

ــــــــــــــــــــــ

المصدر: نزهة الراني في ترجمة الشيخ سيديَ الثاني، للعلامة المحدث الشيخ محمد بن أبي مدين