مسألة الديموقراطية ، و سؤال لماذا تأخر المسلمون ، وتقدم غيرهم ؟ د. محمد بدى أبنو *

سبت, 2015-02-28 15:25

" هذا الخراب الذي وقع بجهة الجنوب وأقطاره أمر له ما بعده " فــ"كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها." ابن خلدون

ـ1ـ

ظهر في الحقيقة سؤال التقهقر ـ أسبابه؟ كيف يواجَه ـ لدى نخب الامبراطورية  العثمانية منذ القرن السادس عشر. ولكنه أخذ حدّته خاصة مع نهاية القرن السابع عشر لاسيما بعد معاهدة كارلوڤيتس سنة 1699 وولادة ما ستسميه الأدبيات الأوربية بــ"مسألة الشرق". أصبح واضحا حينها أن أوربا الصاعدة أخذتْ تفرض على الامبراطورية العثمانية  كما على مجموع العالم الاسلامي تحديات غير مسبوقة. هل أصبح التقهقر حتميا أم ما زال هنالك مجال لنفي الجبرية عن التاريخ؟ طُرح هذا السؤالُ أساسا عبر ابن خلدون الذي تمّتْ ترجمة مقدمته إلى التركية العثمانية سنة 1749. فما يحدث بدا منسجما مع 'بارادايم' التقهقر كما صاغ ملامحه الأساسية في القرن الرابع عشر صاحبُ المقدمة. مع بداية القرن الثامن عشر لم يعد انتقال مركز الثقل السياسي والاقتصادي من جنوب المتوسط إلى شماله احتمالا واردا فقط وإنما أضحى أمرا ماثلا يلزم التعامل معه بما هو كذلك.

 

 

 

 

 

ـ2ـ

 

كما هو معروف لم يُطرح في العالم الاسلامي سؤال الديمقراطية بالمعنى المعاصر إلا منذ بداية القرن التاسع عشر مع أسماء كالطهطاوي وسيد أحمد خان ومدحت باشا وخير الدين التونسي. ولكن القرنين السابقين قد حددا الرهانات : يتعلق الأمر أساسا بنقد الاستبداد، أو بعبارة أدق بنقد الحكم الفردي المطلق وطابعه التحكمي. ولكنه يتعلق أيضا بالاهتمام التدريجي لقلّة من النخب المسلمة بالإصلاحات السياسية والمؤسسية التي أخذتْ تعرفها بعض دول أوربا الغربية والهوة التي أخذتْ تخلقها هذه الاصلاحات مع الضفة الأخرى للمتوسط. من هنا ولد السؤال الديمقراطي في القرن التاسع عشر مرفقا بسؤال ملاصق عن أوربا : هل تكمن دلالة الأخيرة في إصلاحاتها وثوراتها أم في هيمنتها؟ إصلاحيو القرن التاسع عشر حاولوا تجاوز هذه الثنائية عبر تأصيل أدواتهم المفاهيميه. الإصلاحيون المسلمون مثلا عملوا على تجذيرها إسلاميا (إصلاحات أوربا أقرب إلى قيم الإسلام من "المسلمين الجغرافيين"، الديمقراطية هي الشورى، الحرية هي الإنصاف والعدل، إلخ). بشكل أعم تمّ تمييز الديمقراطية الليبرالية عن خلفيتها الهيمنية  لأن التأخر أو "المسألة الكبرى" بتعبير عبد الرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد" تكمن عند أغلبهم في "الاستبداد السياسي" وتجعل مواجهته أولوية. ولكن نظرة الإصلاحيين هذه رغم تفاؤلها في مستوى ما بعلاقة المثاقفة مع أوربا ظلّتْ تضمّ إلى جانب ذلك قلقا متزايدا من تمدّد الهيمنة الأوربية. وهو قلق سيأخذ أبعادا جديدة مع العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر في ظلّ  توسّع المدّ الاستعماري قبل و بعد مؤتمر برلين (1884 ـ 1885) كما في ظلّ الانعكاسات الكثيفة للتفكّك المتصاعد للإمبراطورية العثمانية. ازداد الواقع حينها إصرارا على إصابة الاصلاحيين بحالة فصام متفاقمة ستجد ترجمتها الأبرز في كاب شكيب أرسلان " لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟".

 

 

 

 

 

ـ3ـ

 

مثّلَ ما بعد الحرب الأولى أوائل أعراض أزمة الفكرة الديمقراطية في العالم الإسلامي . فإلغاء الخلافة فككّ الوحدة النظرية للتيار أو التيارت الإصلاحية. شيئا فشيئا منحتْ الكمالية والنماذج المماثلة فكرة المستبدّ العادل للتيار الليبرالي التقليدي. بينما وجد النقد الماركسي للديمقراطية الليبرالية أرضية خصبة لاسيما في الأوساط التي ستشهد تدريجيا صعود التيارت اليسارية والقومية. كما كشفتْ مثلا أزمة كتاب علي عبد الرازق "الاسلام وأصول الحكم" عن عمق الصدمة التي شعر بها الاصلاحيون المسلمون خصوصا في العالم العربي بعد إلغاء الخلافة وعن حالة تشكّل خريطة ايديولوجية جديدة لديهم في ظل هذه الصدمة. وهي الخريطة التي ستعرف بعد الحرب الثانية ظهور جيوب راديكالية متعاظمة كان من ملامحها الإيديولجية مثلا توجيه نقد كثيف لتيار العروة الوثقى يتّهمه بالاستلاب وبالارتهان لمفاهيم أجنبية.  

 

 

 

ـ4ـ

 

منحتْ بشكل عام التحولات الجيوسياسية في العالم الاسلامي ـ وفي عموم العالم الثالث ـ خلال الحرب الباردة مناخا مناسبا لظهور عدة صور من الاستبداد. الاشكالية السياسية الأساسية أصبحتْ إشكالية الدولة أي إشكالية البنى الدولتية الموروثة عن التقطيع الاستعماري. الدول المابعد استعمارية ظهرتْ أولا كترجمة لمنظومة خارجية تحمل تناقضا تكوينيا بين الدولة والمجتمع. والدولة لذلك تجد صعوبة في فرض وجودها بوسائل أخرى غير العنف البوليسي. يصدق هذا بشكل خاص على إفريقيا جنوب الصحراء وعلى العالم العربي. بالنسبة للأخير فإن نكسة 67 قد حملتْ إلى السلطة عدة أنظمة محسوبة على اليسار الوحدوي طورتْ أساليب حكم أوتوقراطية شبه استالينية تماهت في أوتوقراطيتها الدولة والنظام. وموازاة مع ذلك سمحت الطفرة البترولية والسياق الجيوستراتيجي للأنظمة الأبوية العائلية في الخليج باكتساب نفوذ سياسي وإيديولوجي ظلّ في تصاعد.

 

هكذا ظهرتْ منذ أواخر السبعينات كإحدى ردود الفعل على هذه الأوتوقراطية المزدوجة عودةٌ متنامية نسبيا  للخطاب الديمقراطي ومحاولات تأصيلية متعددة له. تغذتْ أساسا هذه المحاولات من وسطين : 'ما بعد اليسار' واليسار الاسلامي. كلاهما دفع ثمن مواجهته للأتوقراطية أو بقاءه خارج الولاءات الرسمية.

 

 

 

ـ5ـ

 

أما التوافق المناهض للديمقراطية في جزء من العالم الاسلامي وبشكل خاص في العالم العربي فهو أكثر تعددا وتباينا. هنالك الطهرانيات الظرفية أو الأقل ظرفية التي لا ترى في الديمقراطية سوى شعار يهدف إلى إخفاء الغصْب المادي الصارخ للحاكمية. كما أنه ما يزال هنالك وإن بصوت ضعيف النقد اليساري للديمقراطية 'الرأسمالية البرجوازية' وأهداف الهيمنة التي يفترض أنها تتخفى خلفها. ومعروف كذلك أن البيروقراطيات الدولتية، المدنية والعسكرية، والمؤسسات الدينية التقليدية المعضّدة لها والنخب "الحديثة" المرتبطة بها لديها جميعا حذر شديد وخوف من الشرائح الشعبية.

 

صحيح أنه في دول إسلامية عديدة مثل أندنوسيا وتركيا يبدو أن الخيار الديمقراطي قد أضحى صلبا.  ولكن الأمر يختلف في العالم العربي. ورغم أنه نُظِر إلى الأحداث الثورية التي اندلعت منذ 2010  كفاتحة لخيارات جديدة لاسيما على صعيد الدمقرطة، إلا أنه بديهي أن الحماس الذي استُقبلتْ به قد خَفتَ كثيرا للأسباب المعروفة. مع ذلك فإن الديناميكيات العميقة التي تَكشِف عنها جزئيا هذه الأحداث لم تقُـل بعد كلمتها الأخيرة.   

 

 

 

 

* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

 

beddy.iese@gmail.com